سورة النجم - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النجم)


        


قوله: {والنجم إِذَا هوى} التعريف للجنس، والمراد به: جنس النجوم، وبه قال جماعة من المفسرين، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النجم في السماء الثريا *** والثريا في الأرض زين النساء
وقيل: المراد به: الثريا، وهو اسم غلب فيها، تقول العرب: النجم، وتريد به الثريا، وبه قال مجاهد، وغيره، وقال السديّ، النجم هنا: هو الزهرة؛ لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها، وقيل: النجم هنا: النبت الذي لا ساق له، كما في قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] قاله الأخفش. وقيل: النجم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: النجم القرآن؛ وسمي نجماً لكونه نزل منجماً مفرّقاً، والعرب تسمي التفريق تنجيماً، والمفرّق: المنجم، وبه قال مجاهد، والفراء، وغيرهما، والأوّل أولى. قال الحسن: المراد بالنجم: النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقيل المراد بها: النجوم التي ترجم بها الشياطين، ومعنى هويه: سقوطه من علو، يقال: هوى النجم يهوي هوياً: إذا سقط من علو إلى سفل، وقيل: غروبه، وقيل: طلوعه، والأوّل أولى، وبه قال الأصمعي وغيره، ومنه قول زهير:
تسيح بها الأباعر وهي تهوى *** هويّ الَّدلْوِ أسْلَمَها الرشَاءُ
ويقال: هوى في السير: إذا مضى؛ ومنه قول الشاعر:
بينما نَحْنُ بالبِلاكثِ فالقا *** عِ سِراعاً والعِيسُ تَهْوِى هُويا
خَطَرتْ خَطْرة على القلب من ذك *** رَاكِ وَهناً فما استطعت مُضيا
ومعنى الهوَي على قول من فسر النجم بالقرآن: أنه نزل من أعلا إلى أسفل، وأما على قول من قال إنه الشجر الذي لا ساق له، أو أنه محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يظهر للهويّ معنى صحيح، والعامل في الظرف فعل القسم المقدّر، وجواب القسم قوله: {مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى} أي: ما ضلّ محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق والهدى، ولا عدل عنه، والغيّ: ضدّ الرشد، أي: ما صار غاوياً ولا تكلم بالباطل، وقيل: ما خاب فيما طلب، والغَيّ: الخيبة، ومنه قول الشاعر:
فمن يْلَق خيراً يحمِد النَّاسُ أَمْرَهُ *** وَمْن يَغْوَ لا يعدم على الغيِّ لائماً
وفي قوله: {صاحبكم} إشارة بأنهم المطلعون على حقيقة حاله، والخطاب لقريش {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي: ما يصدر نطقه عن الهوى لا بالقرآن ولا بغيره، فعن على بابها.
وقال أبو عبيدة: إنّ عن بمعنى الباء أي: بالهوى. قال قتادة: أي: ما ينطق بالقراءة عن هواه {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى} أي: ما هو الذي ينطق به إلاّ وحي من الله يوحيه إليه. وقوله: {يُوحَى} صفة لوحي تفيد الاستمرار التجددي، وتفيد نفي المجاز، أي: هو وحي حقيقة لا لمجرد التسمية {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} القوى جمع قوّة، والمعنى: أنه علمه جبريل الذي هو شديد قواه، هكذا قال أكثر المفسرين: إن المراد: جبريل.
وقال الحسن: هو الله عزّ وجلّ، والأوّل أولى، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف {ذُو مِرَّةٍ فاستوى} المرّة: القوّة والشدّة في الخلق، وقيل: ذو صحة جسم وسلامة من الآفات، ومنه قول النبيّ: «لا تحل الصدقة لغنيّ ولا لذي مرّة سوي» وقيل: ذو حصانة عقل، ومتانة رأي. قال قطرب: العرب تقول لكلّ من هو جزل الرأي، حصيف العقل ذو مرّة، ومنه قول الشاعر:
قد كنت قبلَ لِقائكُمُ ذا مِرّةٍ *** عندي لِكلُّ مخاصِمٍ مِيزانُهُ
والتفسير للمرّة بهذا أولى؛ لأن القوّة والشدّة قد أفادها قوله: {شَدِيدُ القوى} قال الجوهري: المرّة إحدى الطبائع الأربع، والمرّة: القوّة وشدّة العقل، والفاء في قوله: {فاستوى} للعطف على علَّمه، يعني جبريل، أي: ارتفع وعاد إلى مكانه في السماء بعد أن علم محمداً صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وقيل: معنى استوى: قام في صورته التي خلقه الله عليها؛ لأنه كان يأتي النبي في صورة الآدميين، وقيل المعنى: فاستوى القرآن في صدره صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن:- فاستوى يعني: الله عزّ وجلّ- على العرش {وَهُوَ بالأفق الأعلى} هذه الجملة في محل نصب على الحال أي: فاستوى جبريل حال كونه بالأفق الأعلى، والمراد بالأفق الأعلى: جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب، وقيل المعنى: فاستوى عالياً، والأفق: ناحية السماء، وجمعه آفاق، قال قتادة، ومجاهد: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس، وقيل: هو يعني جبريل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى ليلة المعراج، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة. {ثُمَّ دَنَا فتدلى} أي: دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى، أي: قرب من الأرض فتدلى، فنزل على النبيّ بالوحي، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ثم تدلى فدنى، قاله ابن الأنباري، وغيره. قال الزجاج: معنى {دَنَا فتدلى} واحد، أي: قرب وزاد في القرب؛ كما تقول: فدنا مني فلان وقرب، ولو قلت: قرب مني ودنا جاز. قال الفراء: الفاء في فتدلى بمعنى الواو، والتقدير: ثم تدلى جبريل ودنا، ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحداً أن تقدّم أيهما شئت. قال الجمهور: والذي دنا فتدلى هو جبريل، وقيل: هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: دنا منه أمره وحكمه، والأوّل أولى. قيل: ومن قال: إن الذي استوى هو جبريل ومحمد، فالمعنى عنده: ثم دنا محمد من ربه دنوّ كرامة، فتدلى، أي: هوى للسجود، وبه قال الضحاك {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} أي: فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم، أو ما بين محمد وربه قاب قوسين، أي: قدر قوسين عربيين.
والقاب والقيب، والقاد والقيد: المقدار، ذكر معناه في الصحاح. قال الزجاج: أي: فيما تقدّرون أنتم، والله سبحانه عالم بمقادير الأشياء، ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا. وقيل: {أو} بمعنى الواو، أي: وأدنى، وقيل: بمعنى بل، أي: بل أدنى.
وقال سعيد بن جبير، وعطاء، وأبو إسحاق الهمداني، وأبو وائل شقيق بن سلمة {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ}: قدر ذراعين، والقوس: الذّراع يقاس بها كل شيء، وهي لغة بعض الحجازيين، وقيل: هي لغة أزد شنوءة.
وقال الكسائي: فكان قاب قوسين أراد قوساً واحدة. {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} أي: فأوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، وفيه تفخيم للوحي الذي أوحي إليه، والوحي: إلقاء الشيء بسرعة، ومنه الوحا وهو السرعة، والضمير في {عبده} يرجع إلى الله، كما في قوله: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45] وقيل المعنى: فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، وبالأوّل قال الربيع، والحسن، وابن زيد، وقتادة. وقيل: فأوحى الله إلى عبده محمد. قيل: وقد أبهم الله سبحانه ما أوحاه جبريل إلى محمد، أو ما أوحاه الله إلى عبده جبريل، أو إلى محمد ولم يبينه لنا، فليس لنا أن نتعرّض لتفسيره.
وقال سعيد بن جبير: الذي أوحى إليه هو {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] إلخ، و{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} [الضحى: 6] إلخ. وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. وقيل: إن {ما} للعموم لا للإبهام، والمراد: كل ما أوحى به إليه، والحمل على الإبهام أولى لما فيه من التعظيم. {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} أي: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بصره ليلة المعراج، يقال: كذبه: إذا قال له الكذب، ولم يصدقه. قال المبرد: معنى الآية: أنه رأى شيئًا فصدق فيه، قرأ الجمهور: {ما كذب} مخففاً، وقرأ هشام، وأبو جعفر بالتشديد و{مَا} في: {مَا رأى} موصولة أو مصدرية في محل نص {بكذب} مخففاً ومشدّداً {أفتمارونه على مَا يرى}. قرأ الجمهور: {أفتمارونه} بالألف من المماراة، وهي المجادلة والملاحاة، وقرأ حمزة، والكسائي: {أفتمرونه} بفتح التاء وسكون الميم، أي: أفتجدونه، واختار أبو عبيد القراءة الثانية. قال: لأنهم لم يماروه، وإنما جحدوه، يقال: مراه حقه، أي: جحده، ومريته أنا: جحدته، قال: ومنه قول الشاعر:
لأن هَجَوْتَ أَخَا صِدْق وَمْكرُمَة *** لَقَدْ مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْريكا
أي: جحدته. قال المبرد: يقال: أمرأه عن حقه، وعلى حقه: إذا منعه منه ودفعه. وقيل: على بمعنى عن، وقرأ ابن مسعود، والشعبي، ومجاهد، والأعرج: {أفتمرونه} بضم التاء من أمريت، أي: أتريبونه وتشكون فيه، قال جماعة من المفسرين: المعنى على قراءة الجمهور: أفتجادلونه، وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا: صف لنا مسجد بيت المقدس، أي: أفتجادلونه جدالاً ترومون به دفعه عما شاهده وعلمه، واللام في قوله: {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى} هي الموطئة للقسم، أي: والله لقد رآه نزلة أخرى، والنزلة: المرة من النزول، فانتصابها على الظرفية، أو منتصبة على المصدر الواقع موقع الحال، أي: رأى جبريل نازلاً نزلة أخرى، أو على أنه صفة مصدر مؤكد محذوف، أي: رآه رؤية أخرى.
قال جمهور المفسرين: المعنى أنه رأى محمد جبريل مرّة أخرى، وقيل: رأى محمد ربه مرّة أخرى بفؤاده {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} الظرف منتصب ب {رآه}، والسدر: هو شجر النبق، وهذه السدرة هي في السماء السادسة، كما في الصحيح، وروي أنها في السماء السابعة، والمنتهى: مكان الانتهاء، أو هو مصدر ميمي، والمراد به: الانتهاء نفسه، قيل: إليها ينتهي علم الخلائق، ولا يعلم أحد منهم ما وراءها، وقيل: ينتهي إليها ما يعرج به في الأرض، وقيل: تنتهي إليها أرواح الشهداء، وقيل غير ذلك. وإضافة الشجرة إلى المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه {عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} أي: عند تلك السدرة جنة تعرف بجنة المأوى، وسميت جنة المأوى لأنه أوى إليها آدم، وقيل: إن أرواح المؤمنين تأوي إليها. قرأ الجمهور {جنة} برفع جنة على أنها مبتدأ، وخبرها الظرف المتقدّم. وقرأ عليّ، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وابن الزبير، وأنس، وزر بن حبيش، ومحمد بن كعب، ومجاهد، وأبو سبرة الجهني: {جنه} فعلاً ماضياً من جنّ يجن، أي: ضمه المبيت، أو سترة إيواء الله له، قال الأخفش: أدركه، كما تقول: جنه الليل أي: ستره وأدركه، والجملة في محل نصب على الحال {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} العامل في الظرف {رآه} أيضاً، وهو ظرف زمان، والذي قبله ظرف مكان، والغشيان بمعنى: التغطية والستر، وبمعنى الإتيان، يقال: فلان يغشاني كل حين أي: يأتيني، وفي الإبهام في قوله: {مَا يغشى} من التفخيم ما لا يخفى، وقيل: يغشاها جراد من ذهب، وقيل: طوائف من الملائكة.
وقال مجاهد: رفرف أخضر، وقيل: رفرف من طيور خضر، وقيل: غشيها أمر الله، والمجيء بالمضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً للصورة البديعة، أو للدلالة على الاستمرار التجددي. {مَا زَاغَ البصر} أي: ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم عما رآه {وَمَا طغى} أي: ما جاوز ما رأى، وفي هذا وصف أدب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، حيث لم يلتفت، ولم يمل بصره، ولم يمده إلى غير ما رأى، وقيل: ما جاوز ما أمر به {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} أي: والله لقد رأى تلك الليلة من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف، قيل: رأى رفرفاً سدّ الأفق، وقيل: رأى جبريل في حلة خضراء قد ملأ ما بين السماء والأرض له ستمائة جناح، كذا في صحيح مسلم، وغيره، وقال الضحاك: رأى سدرة المنتهى، وقيل: هو كل ما رآه تلك الليلة في مسراه وعوده، و{من} للتبعيض، ومفعول رأى: الكبرى، ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً، أي: رأى شيئًا عظيماً من آيات ربه، ويجوز أن تكون {من} زائدة.
{أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} لما قصّ الله سبحانه هذه الأقاصيص قال للمشركين، موبخاً لهم ومقرّعاً {أَفَرَءيْتُمُ} أي: أخبروني عن الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها قدرة توصف بها؟ وهل أوحت إليكم شيئًا، كما أوحى الله إلى محمد، أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع؟ ثم ذكر هذه الأصنام الثلاثة التي اشتهرت في العرب، وعظم اعتقادهم فيها. قال الواحدي وغيره: وكانوا يشتقون لها أسماء من أسماء الله تعالى، فقالوا: من الله اللات، ومن العزيز العزّى، وهي تأنيث الأعزّ بمعنى العزيزة، ومناة من منى الله الشيء: إذا قدّره. قرأ الجمهور {اللات} بتخفيف التاء، فقيل: هو مأخوذ من اسم الله سبحانه كما تقدّم، وقيل: أصله: لات يليت، فالتاء أصلية، وقيل: هي زائدة، وأصله لوى يلوي؛ لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها، أو يلتون عليها، ويطوفون بها. واختلف القراء هل يوقف عليها بالتاء، أو بالهاء؟ فوقف عليها الجمهور بالتاء، ووقف عليها الكسائي بالهاء، واختار الزجاج، والفراء الوقف بالتاء؛ لاتباع رسم المصحف، فإنها تكتب بالتاء، وقرأ ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، ومنصور بن المعتمر، وأبو الجوزاء، وأبو صالح، وحميد: {اللات} بتشديد التاء، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير، فقيل: هو اسم رجل كان يلتّ السويق، ويطعمه الحاج، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل. قال مجاهد: كان رجلاً في رأس جبل يتخذ من لبنها وسمنها حيساً، ويطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه.
وقال الكلبي: كان رجلاً من ثقيف له صرمة غنم، وقيل: إنه عامر بن الظرب العدواني، وكان هذا الصنم لثقيف، وفيه يقول الشاعر:
لا تنْصُروا اللاتَ إنَّ اللهَ مُهْلِكُها *** وَكَيْفَ يَنْصُرُكُمْ مَنْ لَيْسَ يَنْتَصِرُ
قال في الصحاح: و{اللات} اسم صنم لثقيف، وكان بالطائف، وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم بالهاء {والعزى}: صنم قريش، وبني كنانة. قال مجاهد: هي شجرة كانت بغطفان، وكانوا يعبدونها، فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فقطعها، وقيل: كانت شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة.
وقال سعيد بن جبير: العزى: حجر أبيض كانوا يعبدونه.
وقال قتادة: هي بيت كان ببطن نخلة {ومناة}: صنم بني هلال.
وقال ابن هشام: صنم هذيل وخزاعة.
وقال قتادة: كانت للأنصار. قرأ الجمهور {مناة} بألف من دون همزة، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وحميد، ومجاهد، والسلمي بالمدّ والهمز. فأما قراءة الجمهور، فاشتقاقها من منى يمنى، أي: صبّ؛ لأن دماء النسائك كانت تصب عندها يتقرّبون بذلك إليها. وأما على القراءة الثانية، فاشتقاقها من النوء، وهو المطر؛ لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء، وقيل: هما لغتان للعرب، ومما جاء على القراءة الأولى قول جرير:
أزيد مناة توعد يابن تيم *** تأمل أين تاه بك الوعيد
ومما جاء على القراءة الأخرى قول الحارثي:
ألا هَلْ أتى التَّيْم بن عبد مناءة *** على السر فيما بيننا ابنُ تَمِيمِ
وقف جمهور القراء عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف، ووقف ابن كثير، وابن محيصن عليها بالهاء. قال في الصحاح: ومناة اسم صنم كان بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث، ويسكت عليها بالتاء، وهي لغة. قوله: {الثالثة الأخرى} هذا وصف لمناة، وصفها بأنها ثالثة، وبأنها أخرى، والثالثة لا تكون إلاّ أخرى. قال أبو البقاء: فالوصف بالأخرى للتأكيد، وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى، والعرب إنما تصف به الثانية، فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله: {مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: أفرأيتم اللات والعزّى الأخرى ومناة الثالثة. وقيل: إن وصفها بالأخرى لقصد التعظيم؛ لأنها كانت عند المشركين عظيمة، وقيل: إن ذلك للتحقير والذم، وإن المراد المتأخرة الوضيعة، كما في قوله: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهم} [الأعراف: 38] أي: وضعاؤهم لرؤسائهم. ثم كرّر سبحانه توبيخهم وتقريعهم بمقالة شنعاء قالوها، فقال: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} أي: كيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث، وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور، قيل: وذلك قولهم: إن الملائكة بنات الله، وقيل: المراد: كيف تجعلون اللات، والعزّى ومناة، وهي إناث في زعمكم، شركاء لله، ومن شأنهم أن يحتقروا الإناث. ثم ذكر سبحانه أن هذه التسمية، والقسمة المفهومة من الاستفهام قسمة جائرة، فقال: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} قرأ الجمهور {ضيزى} بياء ساكنة بغير همزة، وقرأ ابن كثير بهمزة ساكنة، والمعنى: أنها قسمة خارجة عن الصواب، جائرة عن العدل، مائلة عن الحق. قال الأخفش: يقال: ضاز في الحكم، أي: جار، وضازه حقه يضيزه ضيزاً، أي: نقصه وبخسه، قال: وقد يهمز، وأنشد:
فإن تَنْأء عَنَّا نَنْتِقصْك وإِن تَغِبْ *** فحقك مضئؤوز وَأنفُكَ رَاغِمُ
وقال الكسائي: ضاز يضيز ضيزاً، ء وضاز يضوز ضوزاً: إذا تعدى وظلم وبخس وانتقص، ومنه قول الشاعر:
ضازَتْ بنو أَسدٍ بِحُكمِهِم *** إِذْ يَجْعَلُون الرأسَ كالذَّنَبِ
قال الفراء: وبعض العرب يقول: ضئزى بالهمز، وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه سمع العرب تهمز ضيزى، قال البغوي: ليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت إنما تكون في الأسماء مثل ذكرى، قال المؤرج: كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واواً وهي من بنات الواو، فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع أبيض: بيض، وكذا قال الزجاج: وقيل: هي مصدر كذكرى، فيكون المعنى: قسمة ذات جور وظلم.
ثم ردّ سبحانه عليهم بقوله: {إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءآبَاؤُكُم} أي: ما الأوثان، أو الأصنام باعتبار ما تدعونه من كونها آلهة إلاّ أسماء محضة، ليس فيها شيء من معنى الألوهية التي تدعونها؛ لأنها لا تبصر ولا تسمع، ولا تعقل ولا تفهم، ولا تضر ولا تنفع، فليست إلاّ مجرّد أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، قلد الآخر فيها الأول. وتبع في ذلك الأبناء الآباء، وفي هذا من التحقير لشأنها ما لا يخفى، كما تقول في تحقير رجل: ما هو إلاّ اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] يقال: سميته زيداً وسميته بزيد، فقوله: {سميتموها} صفة لأصنام، والضمير يرجع إلى الأسماء لا إلى الأصنام، أي: جعلتموها أسماء لا جعلتم لها أسماء. وقيل: إن قوله: {هِىَ} راجع إلى الأسماء الثلاثة المذكورة، والأوّل أولى {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} أي: ما أنزل بها من حجة ولا برهان. قال مقاتل: لم ينزل لنا كتاباً لكم فيه حجة، كما تقولون: إنها آلهة، ثم أخبر عنهم بقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي: ما يتبعون فيما ذكر من التسمية، والعمل بموجبها إلاَّ الظنّ الذي لا يغني من الحق شيئًا، والتفت من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم وتحقيراً لشأنهم، فقال: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} أي: تميل إليه، وتشتهيه من غير التفات إلى ما هو الحق الذي يجب الاتباع له. قرأ الجمهور {يتبعون} بالتحتية على الغيبة، وقرأ عيسى بن عمر، وأيوب، وابن السميفع بالفوقية على الخطاب، ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود، وابن عباس، وطلحة، وابن وثاب {وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى} أي: البيان الواضح الظاهر بأنها ليست بآلهة، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يتبعون، ويجوز أن يكون اعتراضاً، والأوّل أولى. والمعنى: كيف يتبعون ذلك، والحال أن قد جاءهم ما فيه هدًى لهم من عند الله على لسان رسوله الذي بعثه الله بين ظهرانيهم، وجعله من أنفسهم. {أَمْ للإنسان مَا تمنى} {أم} هي المنقطعة المقدرة ببل، والهمزة التي للإنكار، فأضرب عن اتباعهم الظنّ الذي هو مجرّد التوهم، وعن اتباعهم هوى الأنفس، وما تميل إليه، وانتقل إلى إنكار أن يكون لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم، وتشفع لهم.
ثم علل انتفاء أن يكون للإنسان ما تمنى بقوله: {فَلِلَّهِ الآخرة والأولى} أي: أن أمور الآخرة والدنيا بأسرها لله عزّ وجلّ، فليس لهم معه أمر من الأمور، ومن جملة ذلك أمنياتهم الباطلة، وأطماعهم الفارغة، ثم أكد ذلك، وزاد في إبطال ما يتمنونه، فقال: {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السموات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً} وكم هنا هي الخبرية المفيدة للتكثير، ومحلها الرفع على الابتداء، والجملة بعدها خبرها، ولما في {كم} من معنى التكثير، جمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك، والمعنى: التوبيخ لهم بما يتمنون، ويطمعون فيه من شفاعة الأصنام مع كون الملائكة مع كثرة عبادتها، وكرامتها على الله لا تشفع إلاّ لمن أذن أن يشفع له، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة للعقل والفهم، وهو معنى قوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله} لهم بالشفاعة {لِمَن يَشَاء} أن يشفعوا له {ويرضى} بالشفاعة له لكونه من أهل التوحيد، وليس للمشركين في ذلك حظّ، ولا يأذن الله بالشفاعة لهم ولا يرضاها؛ لكونهم ليسوا من المستحقين لها.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس {والنجم إِذَا هوى} قال: إذا انصبّ.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: هو الثريا إذا تدلت.
وأخرج عنه أيضاً قال: أقسم الله أن ما ضلّ محمد، ولا غوى.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {ذُو مِرَّةٍ} قال: ذو خلق حسن.
وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلاّ مرّتين، أما واحدة: فإنه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته، فسدّ الأفق، وأما الثانية: فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله: {وَهُوَ بالافق الأعلى}. {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} قال: خلق جبريل.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح»، وأخرجه أحمد عنه أيضاً.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس {وَهُوَ بالافق الاعلى} قال: مطلع الشمس.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود في قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} قال: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عنه في قوله: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلة رفرف أخضر قد ملأ ما بين السماء والأرض.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم دنا فتدلى إلى ربه.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عنه قال: دنا ربه فتدلى.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} قال: دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: القاب: القيد، والقوسين: الذراعين.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم اقترب من ربه، فكان قاب قوسين أو أدنى، ألم ترى إلى القوس ما أقربها من الوتر.
وأخرج النسائي، وابن المنذر، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} قال: عبده محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج مسلم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى}. {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى} قال: رأى محمد ربه بقلبه مرّتين.
وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه.
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: رأى محمد ربه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه قال: رأى محمد ربه مرّتين مرّة ببصره، ومرّة بفؤاده.
وأخرج الترمذي وحسنه، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي عنه أيضاً قال: لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه عزّ وجلّ.
وأخرج النسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضاً قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد؟ وقد روي نحو هذا عنه من طرق.
وأخرج مسلم، والترمذي، وابن مردويه عن أبي ذرّ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نور أنى أراه؟».
وأخرج مسلم، وابن مردويه عنه: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت نوراً».
وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه، ولم يره ببصره.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة في قوله: {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى} قال: جبريل.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، والترمذي، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة ينتهي ما يعرج من الأرواح، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} قال: فراش من ذهب.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود قال: الجنة في السماء السابعة العليا، والنار في الأرض السابعة السفلى.
وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس قال: كان اللات رجلاً يلتّ السويق للحاجّ.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه أن العزى كانت ببطن نخلة، وأن اللات كانت بالطائف، وأن مناة كانت بقديد.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {ضيزى} قال: جائرة لا حقّ لها.


قوله: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الآنثى} أي: أن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث، وما بعده من الدار الآخرة، وهم الكفار يضمون إلى كفرهم مقالة شنعاء، وجهالةً جهلاء، وهي أنهم يسمون الملائكة المنزهين عن كل نقص تسمية الأنثى، وذلك أنهم زعموا أنها بنات الله، فجعلوهم إناثاً، وسموهم بنات {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} هذه الجملة في محل نصب على الحال، أي: يسمونهم هذه التسمية، والحال أنهم غير عالمين بما يقولون، فإنهم لم يعرفوهم، ولا شاهدوهم، ولا بلِّغ إليهم ذلك من طريق من الطرق التي يخبر المخبرون عنها، بل قالوا ذلك جهلاً وضلالةً وجرأة. وقرئ {ما لهم بها} أي: بالملائكة، أو التسمية {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي: ما يتبعون في هذه المقالة إلاّ مجرّد الظنّ، والتوهم. ثم أخبر سبحانه عن الظنّ وحكمه، فقال: {وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً} أي: إن جنس الظنّ لا يغني من الحق شيئًا من الإغناء، والحقّ: هنا العلم. وفيه دليل على أن مجرّد الظن لا يقوم مقام العلم، وأن الظانّ غير عالم. وهذا في الأمور التي يحتاج فيها إلى العلم، وهي المسائل العلمية؛ لا فيما يكتفي فيه بالظنّ، وهي المسائل العملية، وقد قدّمنا تحقيق هذا. ولا بدّ من هذا التخصيص، فإن دلالة العموم والقياس وخبر الواحد، ونحو ذلك ظنية، فالعمل بها عمل بالظن، وقد وجب علينا العمل به في مثل هذه الأمور، فكانت أدلة وجوبه العمل به فيها مخصصة لهذا العموم، وما ورد في معناه من الذمّ؛ لمن عمل بالظن؛ والنهي عن اتباعه. {فَأَعْرَضَ عمن تولى عَن ذِكْرِنَا} أي: أعرض عن ذكرنا، والمراد بالذكر هنا: القرآن، أو ذكر الآخرة، أو ذكر الله على العموم، وقيل: المراد بالذكر هنا: الإيمان، والمعنى: اترك مجادلتهم، فقد بلغت إليهم ما أمرت به، وليس عليك إلاّ البلاغ، وهذا منسوخ بآية السيف {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} أي: لم يرد سواها، ولا طلب غيرها بل قصر نظره عليها، فإنه غير متأهل للخير، ولا مستحقّ للاعتناء بشأنه. ثم صغر سبحانه شأنهم وحقر أمرهم، فقال: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم} أي: إن ذلك التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو مبلغهم من العلم ليس لهم غيره، ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين. قال الفرّاء: أي: ذلك قدر عقولهم، ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة، وقيل: الإشارة بقوله: {ذلك} إلى جعلهم للملائكة بنات الله، وتسميتهم لهم تسمية الأنثى، والأوّل أولى. والمراد بالعلم هنا: مطلق الإدراك الذي يندرج تحته الظنّ الفاسد، والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم، واتباعهم مجرّد الظن، وقيل: معترضة بين المعلل والعلة وهي قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى}، فإن هذا تعليل للأمر بالإعراض، والمعنى: أنه سبحانه أعلم بمن حاد عن الحق، وأعرض عنه، ولم يهتد إليه، وأعلم بمن اهتدى، فقبل الحق، وأقبل إليه، وعمل به، فهو مجاز كل عامل بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ.
وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاد له بأن لا يتعب نفسه في دعوة من أصرّ على الضلالة، وسبقت له الشقاوة، فإن الله قد علم حال هذا الفريق الضال، كما علم حال الفريق الراشد. ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته، وعظيم ملكه، فقال: {وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} أي: هو المالك لذلك، والمتصرّف فيه لا يشاركه فيه أحد، واللام في: {لِيَجْزِىَ الذين أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ} متعلقة بما دلّ عليه الكلام، كأنه قال: هو مالك ذلك يضلّ من يشاء، ويهدي من يشاء ليجزي المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه. وقيل: إن قوله: {وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} معترضة، والمعنى: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى ليجزي، وقيل: هي لام العاقبة، أي: وعاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي الله كلاً منهما بعمله.
وقال مكي: إن اللام متعلقة بقوله: {لاَ تُغْنِى شفاعتهم} وهو بعيد من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى. قرأ الجمهور: {ليجزي} بالتحتية. وقرأ زيد بن عليّ بالنون، ومعنى {بالحسنى} أي: بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، أو بسبب أعمالهم الحسنى. ثم وصف هؤلاء المحسنين، فقال: {الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش} فهذا الموصول في محل نصب على أنه نعت للموصول الأوّل في قوله: {الذين أَحْسَنُواْ} وقيل: بدل منه، وقيل: بيان له، وقيل: منصوب على المدح بإضمار أعني، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين يجتنبون كبائر الإثم. قرأ الجمهور {كبائر} على الجمع. وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، ويحيى بن وثاب: {كبير} على الإفراد، والكبائر: كل ذنب توعد الله عليه بالنار، أو ذمّ فاعله ذماً شديداً، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل. وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها، والفواحش جمع فاحشة: وهي ما فحش من كبائر الذنوب كالزنا، ونحوه.
وقال مقاتل: كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار، والفواحش: كل ذنب فيه الحد، وقيل: الكبائر: الشرك، والفواحش: الزنا، وقد قدّمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا، وأكثر فائدة، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ اللمم} منقطع، وأصل اللمم في اللغة: ما قلّ وصغر، ومنه ألمّ بالمكان: قلّ لبثه فيه، وألمّ بالطعام: قل أكله منه. قال المبرد: أصل اللمم أن تلمّ بالشيء من غير أن تركبه يقال: ألم بكذا: إذا قاربه ولم يخالطه.
قال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنوّ والقرب، ومنه قول جرير:
بنفسي من تجنبه عزيز *** عليّ ومن زيارته لمام
وقول الآخر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً
قال الزجاج: أصل اللمم والإلمام: ما يعمله الإنسان المرّة بعد المرّة، ولا يتعمق فيه، ولا يقيم عليه، يقال: ألممت به: إذا زرته، وانصرفت عنه، ويقال: ما فعلته إلاّ لماماً وإلماماً، أي: الحين بعد الحين، ومنه إلمام الخيال. قال الأعشى:
ألمّ خيال من قبيلة بعد ما *** وهَى حبلها من حبلنا فتصرّما
قال في الصحاح: ألمّ الرجل من ألمم وهو صغائر الذنوب، ويقال: هو مقاربة المعصية من غير مواقعة، وأنشد غيره:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب *** وقلّ أن تملينا فما ملك القلب
وقد اختلفت أقوال أهل العلم في تفسير هذا اللمم المذكور في الآية، فالجمهور على أنه صغائر الذنوب، وقيل: هو ما كان دون الزنا من القبلة، والغمزة، والنظرة، وقيل: هو الرجل يلم بذنب، ثم يتوب، وبه قال مجاهد، والحسن، والزهري، وغيرهم، ومنه:
إن تغفر اللَّهم تغفر جمّا *** وأيّ عبد لك إلاّ ألمّا
اختار هذا القول الزجاج، والنحاس، وقيل: هو ذنوب الجاهلية، فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام، وقال نفطويه: هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة. قال: والعرب تقول: ما تأتينا إلاّ إلماماً، أي: في الحين بعد الحين، قال: ولا يكون أن يلمّ ولا يفعل؛ لأن العرب لا تقول: ألمّ بنا إلاّ إذا فعل، لا إذا همّ ولم يفعل، والراجح الأول، وجملة: {إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة} تعليل لما تضمنه الاستثناء، أي: إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة، فليس يخلو عن كونه ذنباً يفتقر إلى مغفرة الله، ويحتاج إلى رحمته، وقيل: إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه. ثم ذكر سبحانه إحاطة علمه بأحوال عباده، فقال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض} أي: خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم. وقيل: المراد آدم، فإنه خلقه من طين {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} أي: هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنة، والأجنة جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن سمي بذلك لاجتنانه، أي: استتاره، ولهذا قال: {فِى بُطُونِ أمهاتكم} فلا يسمى من خرج عن البطن جنيناً، والجملة مستأنفة؛ لتقرير ما قبلها {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} أي: لا تمدحوها ولا تبرئوها عن الآثام ولا تثنوا عليها، فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء، وأقرب إلى الخشوع، وجملة {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى}: مستأنفة مقررة للنهي، أي: هو أعلم بمن اتقى عقوبة الله، وأخلص العمل له.
قال الحسن: وقد علم سبحانه من كل نفس ما هي عاملة، وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة. ثم لما بيّن سبحانه جهالة المشركين على العموم خصّ بالذمّ بعضهم فقال: {أَفَرَأَيْتَ الذى تولى} أي: تولى عن الخير، وأعرض عن اتباع الحق {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} أي: أعطى عطاءً قليلاً، أو أعطى شيئًا قليلاً، وقطع ذلك وأمسك عنه، وأصل أكدى من الكدية وهي الصلابة، يقال لمن حفر بئراً ثم بلغ فيها إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى فلم يتمّ، ولمن طلب شيئًا فلم يبلغ آخره، ومنه قول الحطيئة:
فأَعطى قليلاً ثم أكْدَى عطاؤه *** ومن يَبْذُلِ المعروف في الناس يحمد
قال الكسائي، وأبو زيد، ويقال: كديت أصابعه: إذا محلت من الحفر، وكدت يده: إذا كلت، فلم تعمل شيئًا، وكدت الأرض: إذا قل نباتها، وأكديت الرجل عن الشيء رددته، وأكدى الرجل: إذا قلّ خيره. قال الفراء: معنى الآية: أمسك من العطية وقطع.
وقال المبرد: منع منعاً شديداً. قال مجاهد، وابن زيد، ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فعيره بعض المشركين، فترك ورجع إلى شركه. قال مقاتل: كان الوليد مدح القرآن، ثم أمسك عنه، فأعطى قليلاً من لسانه من الخير ثم قطعه.
وقال الضحاك: نزلت في النضر بن الحارث.
وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل {أعنده عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى} الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى: أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب، فهو يعلم ذلك {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ موسى * وإبراهيم الذى وفى} أي: ألم يخبر، ولم يحدّث بما في صحف موسى، يعني: أسفاره، وهي التوراة، وبما في صحف إبراهيم، الذي وفى أي: تمم وأكمل ما أمر به. قال المفسرون: أي: بلغ قومه ما أمر به وأدّاه إليهم، وقيل: بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه، ثم بيّن سبحانه ما في صحفهما، فقال: {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} أي: لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى، ومعناه: لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، وأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن مقدّر، وخبرها الجملة بعدها، ومحل الجملة الجرّ على أنها بدل من صحف موسى، وصحف إبراهيم، أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة الأنعام {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} عطف على قوله: {أَلاَّ تَزِرُ} وهذا أيضاً مما في صحف موسى، والمعنى: ليس له إلاّ أجر سعيه، وجزاء عمله، ولا ينفع أحداً عمل أحد، وهذا العموم مخصوص بمثل قوله سبحانه: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء، والملائكة للعباد، ومشروعية دعاء الأحياء للأموات، ونحو ذلك، ولم يصب من قال: إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور، فإن الخاصّ لا ينسخ العام بل يخصصه، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه، كان مخصصاً لما في هذه الآية من العموم: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي: يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة {ثُمَّ يُجْزَاهُ} أي: يجزى الإنسان سعيه، يقال: جزاه الله بعمله، وجزاء على عمله، فالضمير المرفوع عائد إلى الإنسان، والمنصوب إلى سعيه. وقيل: إن الضمير المنصوب راجع إلى الجزاء المتأخر وهو قوله: {الجزاء الأوفى} فيكون الضمير راجعاً إلى متأخر عنه هو مفسر له، ويجوز أن يكون الضمير المنصوب راجعاً إلى الجزاء الذي هو مصدر يجزاه، ويجعل الجزاء الأوفى تفسيراً للجزاء المدلول عليه بالفعل، كما في قوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] قال الأخفش: يقال: جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواءً لا فرق بينهما. {وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى} أي: المرجع والمصير إليه سبحانه لا إلى غيره، فيجازيهم بأعمالهم.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش} قال: الكبائر: ما سمى الله فيه النار، والفواحش: ما كان فيه حدّ الدنيا.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك، أو يكذبه».
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله: {إِلاَّ اللمم} قال: زنا العينين: النظر، وزنا الشفتين: التقبيل، وزنا اليدين: البطش، وزنا الرجلين: المشي، ويصدّق ذلك الفرج، أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زانياً، وإلاّ فهو اللمم.
وأخرج مسدد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه سئل عن قوله: {إِلاَّ اللمم} قال: هي: النظرة، والغمزة، والقبلة، والمباشرة، فإذا مسّ الختان الختان، فقد وجب الغسل، وهو الزنا.
وأخرج سعيد بن منصور، والترمذي وصححه، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال في قوله: {إِلاَّ اللمم} هو: الرجل يلم بالفاحشة، ثم يتوب منها. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللَّهم تغفر جما *** وأيّ عبد لك لا ألما
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {اللمم} يقول: إلاّ ما قد سلف.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة في قوله: {إِلاَّ اللمم} قال: اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود، فذلك الإلمام.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عباس قال: اللمم كل شيء بين الحدّين حدّ الدنيا وحدّ الآخرة يكفره الصلاة، وهو دون كلّ موجب، فأما حدّ الدنيا، فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا؛ وأما حدّ الآخرة، فكلّ شيء ختمه الله بالنار، وأخر عقوبته إلى الآخرة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود إذا هلك لهم صبيّ صغير قالوا: هو صدّيق، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «كذبت يهود ما من نسمة يخلقها في بطن أمها إلاّ أنه شقيّ، وسعيد»، فأنزل الله عند ذلك {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض} الآية كلها.
وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البرّ منكم، سموها زينب».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} قال: قطع، نزلت في العاص بن وائل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال: أطاع قليلاً ثم انقطع.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والشيرازي في الألقاب، والديلمي قال السيوطي: بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبيّ قال: «أتدرون ما قوله: {وإبراهيم الذى وفى}؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «وفّى عمل يومه بأربع ركعات كان يصليهنّ، وزعم أنها صلاة الضحى»، وفي إسناده جعفر بن الزبير، وهو ضعيف.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس قال: سهام الإسلام ثلاثون سهماً لم يتممها أحد قبل إبراهيم عليه السلام قال الله: {وإبراهيم الذى وفى}.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: يقول إبراهيم الذي استكمل الطاعة فيما فعل بابنه حين رأى الرؤيا، والذي في صحف موسى، {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} إلى آخر الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى آخر الآية [الروم: 17]»، وفي إسناده ابن لهيعة.
وأخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس. قال: لما نزلت: {والنجم} فبلغ: {وإبراهيم الذى وفى} قال: وفّى {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} إلى قوله: {مّنَ النذر الأولى}.
وأخرج أبو داود، والنحاس كلاهما في الناسخ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عنه قال: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} فأنزل الله بعد ذلك: {والذين ءامَنُواْ واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، فأدخل الله الأبناء الجنة بصلاح الآباء.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى} استرجع واستكان.
وأخرج الدارقطني في الأفراد، والبغوي في تفسيره عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى} قال: «لا فكرة في الرب».


قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} أي: هو الخالق لذلك والقاضي بسببه. قال الحسن، والكلبي: أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار.
وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر، وقيل: أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه، وأبكى من شاء بأن غمه.
وقال سهل بن عبد الله: أضحك المطيعين بالرحمة، وأبكى العاصين بالسخط {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي: قضى أسباب الموت والحياة، ولا يقدر على ذلك غيره، وقيل: خلق نفس الموت والحياة، كما في قوله: {خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وقيل: أمات الآباء، وأحيا الأبناء، وقيل: أمات في الدنيا وأحيا للبعث، وقيل: المراد بهما: النوم واليقظة.
وقال عطاء: أمات بعدله وأحيا بفضله، وقيل: أمات الكافر وأحيا المؤمن، كما في قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} [الأنعام: 122]. {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} المراد: بالزوجين: الذكر والأنثى من كل حيوان، ولا يدخل في ذلك آدم وحوّاء، فإنهما لم يخلقا من النطفة، والنطفة: الماء القليل، ومعنى {إِذَا تمنى}: إذ تصبّ في الرحم وتدفق فيه، كذا قال الكلبي، والضحاك، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم، يقال: مني الرجل وأمنى، أي: صب المنيّ.
وقال أبو عبيدة {إِذَا تمنى} إذا تقدّر، يقال: منيت الشيء: إذا قدّرته ومني له، أي: قدر له، ومنه قول الشاعر:
حَتَّى تلاقي ما يمْني لَكَ الماني ***
والمعنى: أنه يقدّر منها الولد. {وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى} أي: إعادة الأرواح إلى الأجسام عند البعث وفاء بوعده. قرأ الجمهور: {النشأة} بالقصر بوزن الضربة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالمدّ بوزن الكفالة، وهما على القراءتين مصدران. {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} أي: أغنى من شاء وأفقر من شاء، ومثله قوله: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26] وقوله: {يَقْبِضُ ويبسط} [البقرة: 245] قاله ابن زيد، واختاره ابن جرير.
وقال مجاهد، وقتادة، والحسن: أغنى: موّل، وأقنى: أخدم، وقيل: معنى أقنى: أعطى القنية، وهي ما يتأثل من الأموال. وقيل: معنى أقنى: أرضى بما أعطى، أي: أغناه ثم رضاه بما أعطاه. قال الجوهري: قنّى الرجل قنًى، مثل غنّى غنًى، أي: أعطاه ما يقتني، وأقناه: أرضاه، والقنى: الرضى. قال أبو زيد: تقول العرب: من أعطى مائة من البقر فقد أعطى القنى، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطى الغنى، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطى المنى. قال الأخفش، وابن كيسان: أقنى: أفقر، وهو يؤيد القول الأوّل. {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} هي كوكب خلف الجوزاء كانت خزاعة تعبدها، والمراد بها: الشعرى التي يقال لها: العبور، وهي أشدّ ضياء من الشعرى التي يقال لها: الغميصاء، وإنما ذكر سبحانه أنه ربّ الشعرى مع كونه رباً لكلّ الأشياء للردّ على من كان يعبدها، وأوّل من عبدها أبو كبشة، وكان من أشراف العرب، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن أبي كبشة تشبيهاً له به لمخالفته دينهم، كما خالفهم أبو كبشة، ومن ذلك قول أبي سفيان يوم الفتح: لقد أمر أمْر ابن أبي كبشة.
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى} وصف عاداً بالأولى لكونهم كانوا من قبل ثمود. قال ابن زيد: قيل لها: عاداً الأولى، لأنهم أوّل أمة أهلكت بعد نوح.
وقال ابن إسحاق: هما عادان، فالأولى أهلكت بالصرصر، والأخرى أهلكت بالصيحة. وقيل: عاد الأولى قوم هود، وعاد الأخرى: إرم. قرأ الجمهور: {عاداً الأولى} بالتنوين والهمز، وقرأ نافع، وابن كثير، وابن محيصن بنقل حركة الهمزة على اللام، وإدغام التنوين فيها. {وَثَمُودَ فَمَا أبقى} أي: أهلك ثموداً كما أهلك عاداً، فما أبقى أحداً من الفريقين، وثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة، وقد تقدّم الكلام على عاد، وثمود في غير موضع. {وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ} أي: وأهلك قوم نوح من قبل إهلاك عاد وثمود {إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} أي: أظلم من عاد وثمود وأطغى منهم، أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب، وإنما كانوا كذلك، لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهم، كما في قوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] {والمؤتفكة أهوى} الائتفاك: الانقلاب، والمؤتفكة: مدائن قوم لوط، وسميت المؤتفكة لأنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها، تقول: أفكته: إذا قلبته، ومعنى أهوى: أسقط، أي: أهواها جبريل بعد أن رفعها. قال المبرد: جعلها تهوي. {فغشاها مَا غشى} أي: ألبسها ما ألبسها من الحجارة التي وقعت عليها، كما في قوله: {فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} [الحجر: 74] وفي هذه العبارة تهويل للأمر الذي غشاها به، وتعظيم له، وقيل: إن الضمير راجع إلى جميع الأمم المذكورة، أي: فغشاها من العذاب ما غشّى على اختلاف أنواعه. {فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى} هذا خطاب للإنسان المكذب، أي: فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب تشكك وتمتري، وقيل: الخطاب لرسول الله تعريضاً لغيره، وقيل: لكلّ من يصلح له، وإسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدّده بحسب تعدد متعلقه، وسمى هذه الأمور المذكورة آلاء، أي: نعماً مع كون بعضها نقماً لا نعماً؛ لأنها مشتملة على العبر والمواعظ، ولكون فيها انتقام من العصاة، وفي ذلك نصرة للأنبياء والصالحين. قرأ الجمهور {تتمارى} من غير إدغام، وقرأ يعقوب، وابن محيصن بإدغام إحدى التاءين في الأخرى. {هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الاولى} أي: هذا محمد رسول إليكم من الرسل المتقدّمين قبله، فإنه أنذركم، كما أنذروا قومهم، كذا قال ابن جريج، ومحمد بن كعب، وغيرهما.
وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه أنذر بما أنذرت به الكتب الأولى، وقيل: هذا الذي أخبرنا به عن أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، كذا قال أبو مالك.
وقال أبو صالح: إن الإشارة بقوله: {هذا} إلى ما في صحف موسى، وإبراهيم، والأوّل أولى. {أَزِفَتِ الازفة} أي: قربت الساعة ودنت، سماها آزفة لقرب قيامها، وقيل: لدنوّها من الناس، كما في قوله: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] أخبرهم بذلك ليستعدّوا لها. قال في الصحاح: أزفت الآزفة: يعني: القيامة، وأزف الرجل: عجل، ومنه قول الشاعر:
أزف الترحل غير أن ركابنا *** لما تزل برحالنا وكأن قد
{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ} أي: ليس لها نفس قادرة على كشفها عند وقوعها إلاّ الله سبحانه، وقيل: كاشفة بمعنى انكشاف، والهاء فيها كالهاء في العاقبة والداهية، وقيل: كاشفة بمعنى كاشف، والهاء للمبالغة كرواية، والأوّل أولى. وكاشفة صفة لموصوف محذوف، كما ذكرنا، والمعنى: أنه لا يقدر على كشفها إذا غشت الخلق بشدائدها، وأهوالها أحد غير الله، كذا قال عطاء، والضحاك، وقتادة، وغيرهم. ثم وبّخهم سبحانه، فقال: {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ} المراد بالحديث: القرآن، أي: كيف تعجبون منه تكذيباً {وَتَضْحَكُونَ} منه استهزاءً مع كونه غير محلّ للتكذيب، ولا موضع للاستهزاء {وَلاَ تَبْكُونَ} خوفاً وانزجاراً لما فيه من الوعيد الشديد، وجملة: {وَأَنتُمْ سامدون} في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة لتقرير ما فيها، والسمود: الغفلة والسهو عن الشيء، وقال في الصحاح: سمد سموداً. رفع رأسه تكبراً، فهو سامد، قال الشاعر:
سوامد الليل خفاف الأزواد ***
وقال ابن الأعرابي: السمود: اللهو، والسامد: اللاهي، يقال للقينة: أسمدينا، أي: ألهينا بالغناء، وقال المبرد: سامدون، خامدون. قال الشاعر:
رمى الحدثان نسوة آل عمرو *** بمقدار سمدن له سمودا
فردّ شعورهنّ السود بيضا *** وردّ وجوههنّ البيض سودا
{فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} لما وبّخ سبحانه المشركين على الاستهزاء بالقرآن، والضحك منه، والسخرية به، وعدم الانتفاع بمواعظه وزواجره، أمر عباده المؤمنين بالسجود لله، والعبادة له، والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا كان الأمر من الكفار كذلك، فاسجدوا لله واعبدوا، فإنه المستحق لذلك منكم، وقد تقدم في فاتحة السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية، وسجد معه الكفار، فيكون المراد بها سجود التلاوة، وقيل: سجود الفرض.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} قال: أعطى وأرضى.
وأخرج ابن جرير عنه {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} قال: هو الكوكب الذي يدعى الشعرى.
وأخرج الفاكهي عنه أيضاً قال: نزلت هذه الآية في خزاعة، وكانوا يعبدون الشعرى، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: {هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى} قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الآزفة من أسماء القيامة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت هذه الآية: {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ} فما ضحك النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلاّ أن يتبسم. ولفظ عبد بن حميد: فما رؤي النبيّ صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، ولا متبسماً حتى ذهب من الدنيا.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {سامدون} قال: لاهون معرضون عنه.
وأخرج الفريابي، وأبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عنه: {وَأَنتُمْ سامدون} قال: الغناء باليمانية، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا.
وأخرج الفريابي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله: {سامدون} قال: كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم شامخين، ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخاً.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن أبي خالد الوالبي قال: خرج عليّ بن أبي طالب علينا، وقد أقيمت الصلاة، ونحن قيام ننتظره ليتقدّم، فقال: ما لكم سامدون، لا أنتم في صلاة ولا أنتم في جلوس تنتظرون؟